دراسات إسلامية

عوامل نجاح التربية الإسلامية في زمن التحديات المعاصرة

(2/2)

بقلم:  باي زكوب عبد العالي (*)

 

 

 

المحور الثاني: أهميّة التربيّة الإسلاميّة

     لا شكّ أنّ أهميّة التربيّة الإسلامية تكمن في بناء أجيال قادرة على الحفاظ على البقاء الإسلامي، وذلك عن طريق مواجهة كل مظاهر الانحراف المتمثلة في الاستشراق، والتنصير، والعولمة، والعلمانية التي جاءتنا من الحضارة الغربية عن طريق وسائلها المختلفة كالمطبوعات، والبعثات العلمية والتنصيرية، والراديو، والسينما، والتلفاز، والفيديو، والإنترنت، والقنوات الفضائية، كلّ هذه الوسائل وغيرها أسهمت في انتشار سموم الحضارة الغربية بشكل مذهل، وتتمثل هذه السّموم في العقائد الكفريّة الإلحاديّة التي لا تؤمن إلا بكل ما هو محسوس، وتأليه المال وعبادة أصحابه، والانحلال والإباحية والدعوة لممارسة كل رذيلة والتحلّل من كل فضيلة، من هنا يمكن القول بأنّ الغاية من الترويج للحضارة الغربيّة، هو خلق ديانة مادية جديدة في أوساط الشعوب الإسلامية تحت غطاء الثقافة والتحضّر، ثمّ إحلالها محلّ الإسلام، وبذلك يسهل على الرجل الأبيض (الغربي) سياسة هذه الأجيال وتذليلها وتهيئتها لتسيير شؤون البلاد والعباد، وتاليًا لن تكون هناك أيّة معارضة من قبل هذه الأجيال التي صنعتها الحضارة الغربية، وبالفعل لقد قدّر لهذه الأجيال التي هي من صنع الثقافة الغربية من حكم بلاد المسلمين قرابة قرن من الزّمان(35) وإلى الآن.

     لقد كان من نتائج تسلّل هذا الغزو الثقافي إلى الشعوب الإسلامية أن ولّد الشّكوك والوساوس في عقولهم، ثم طبعهم بطابع التبعية الفكرية لأولئك الغزاة المجرمين. وبالتالي انتشار ظاهرة ازدواجية التربية أو ما بات يعرف بتعدّد أو اختلاط التربيات في المجتمع الإسلامي الواحد، وصار المجتمع المسلم مزيجاً من أشخاص تتنازعهم تربيّات مختلفة علماً أنّ حظّ الإسلام فيها عزيز جدّاً، ولا شكّ أنّ ظاهرة اختلاط التربيّات تحدّ كثيرًا من تأثير الجهود التربوية، ولذلك لجأ المربّون إلى علاج هذه الظّاهرة ووضع الحلول لها، ومن هذه الحلول ما ذكره ابن باديس الجزائري - رحمه الله - وهو يتحدّث عن إستراتيجيّته التربوية في بناء الأجيال: «فإننا - والحمد لله - نربّي تلامذتنا على القرآن من أوّل يوم، ونوجّه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم، وغايتنا التي ستتحقق أن يكوّن القرآن منهم رجالاً كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلّق هذه الأمّة آمالها، وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا، وجهودهم»(36)، فالقرآن يعتبر هو المصدر الأساسي للتربية، وللتذكير فإنّ السّنة ملازمة للقرآن لكونها شارحة له، بعد ذلك يأتي دور الأسرة، فالمسجد، فالإمام، فالمدرسة، فالمعلم، فالبيئة المحيطة.

     إنّ العمليّات التربويّة تحتاج إليها الأفراد والجماعات؛ لأنّها أساس البناء الخلقي الذي هو أساس تكوين المجتمعات وبناؤها على أسس وقيم ومبادئ سليمة، بل تقوم التربية بدور فاعل في تنمية المجتمعات أفرادٍ وجماعاتٍ اجتماعيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، فالعرب قبل الإسلام مثلاً كان مستواهم الأخلاقي في الجزيرة العربيّة يوصف بالتدنّي الشّديد في شتّى الجوانب حتّى وصفهم الصّحابي الجليل جعفر - رضي الله عنه- بقوله: «كنّا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونقطع الأرحام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونسيء الجوار، و يبطش القوي منّا بالضعيف»(37)، وقد ذكرت لنا أمّ المؤمنين السيّدة عائشة - رضي الله عنها - مثالاً على جوانب التدنّي الأخلاقي في المجتمع الجاهلي فقالت: «إنّ النّكاح في الجاهليّة كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح النّاس اليوم، يخطب الرّجل إلى الرّجل وليّته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها، ولايمسّها حتى يتبيّن حملها من ذلك الرّجل الذي تستبضع منه، فإذا تبيّن حملها أصابها زوجها إذا أحبّ، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النّكاح يسمّى نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرّهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلّهم فيصيبونها، فإذا حملت ووضعت ومرّ ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، فتسمّي من أحبّت باسمه، فيلحق به ولدها لايستطيع أن يمتنع منه الرّجل، ونكاح رابع: يجتمع النّاس الكثير فيدخلون على المرأة لاتمتنع ممن جاءها، وهنّ البغايا ينصبن على أبوابهن الرّايات وتكون علماً، فمن أرادهنّ دخل عليهن، فإذا حملت إحداهنّ ووضعت جمعوا لها ودعوا لها القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك»(38)، ولكن بعد أن تربّى العرب في أحضان الإسلام، صاروا كما يصفهم الصّحابيّ نفسه جعفر - رضي الله عنه-: «فدعانا(39) إلى الله - عز وجل- لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرّحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم، والدّماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزّور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصّلاة والزّكاة والصّيام والحجّ من استطاع إليه سبيلاً»(40)، وتقول السّيّدة عائشة - رضي الله عنها- استكمالاً لحديثها عن نكاح الجاهليّة: «فلمّا بُعث محمّد –صلى الله عليه وسلم- بالحقّ هدم نكاح الجاهلية كله إِلَا نكاح النَاس اليوم»(41)، دلّت هذه النّصوص على النّقلة النّوعيّة الفريدة التي أحدثتها التربية الإسلامية في حياة العرب الذين أسلموا لله ربّ العالمين واستجابوا لدعوة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وكانت النتيجة بعد ثلاثة وعشرين حولاً قضاها النبيّ –صلى الله عليه وسلم- بين مكّة والمدينة في إعداد طبقة هائلة من العلماء والدّعاة والمجاهدين -رضي الله عنهم جميعاً- الذين أسهموا جميعاً في حمل رسالة الإسلام إلى النّاس كافّة.

     يخطىء من يحصر التربيّة في شقٍّ واحد وهي علاقة الإنسان بربّه عن طريق إقامة الشّعائر التعبديّة من صلاة وصيام وزكاة وحجّ ونحو ذلك من القربات التي لا شكّ أنّها تقرّب العبد إلى ربّه عزّوجلّ، ويغفل الشّقّ الثاني المتمثّل في العلاقة بين بني آدم بعضهم بعضاً في الحياة، وهذا الفهم السّيّء للإسلام أدّى إلى ظهور ازدواجيّة الشخصيّة في المجتمعات الإسلامية، وننبّه هنا أنّ العبادات تتمثّل في العلاقة بين العبد وربّه، بينما المعاملات تتمثّل في العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان مسلماً كان أو كافراً، ولا يمكن الفصل بينهما البتة؛ لأنّ حسن المعاملات علامة على قبول العبادات، وسوء المعاملات علامة على عدم قبول العبادات، وهذا ما قرّره القرآن في آية جامعة وردت في الأمر على الصّلاة والحثّ عليها عندما قال: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتٰبِ وَأَقِمِ الصَّلوٰةَ إِنَّ الصَّلوٰةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَاتَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، وما قرّرته السنّة أيضاً فيما رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «أتدرون ما المفلس»؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إنّ المفلس من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النّار»(42)، وحاصل معنى الآية والحديث: أنّ المقصد الأسنى للعبادة في الإسلام هي تربية النّفس الإنسانية تربية تؤهّلها إلى ترك المعاصي والمنكرات والمظالم التي من شأنها إقامة البغضاء والحقد والكراهية والحروب والفتن بين بني البشر.

     إنّ التربية الإسلاميّة مطلوبة حتى في الأوقات العصيبة مثل الحرب ضدّ الأعداء، فالإسلام ابتداء لا يتمنّى الحرب ولا يدعو إليها(43)، وإذا أدخل في الحرب مدفوعاً فإنّه لا يدخلها لعرض الحياة الدنيا، وإنّما لإعلاء كلمة الله في الأرض، وإقرار منهجه في الحياة بالحكمة والتربية الحسنة، وفي هذا المعنى يقول عبد الرحمن عزّام: «يظهر لنا من مجموع آيات الكتاب الكريم الواردة في القتال، ومن عمل النبيّ نفسه في سننه، ومن السيرة، وتاريخ حروبه، أنّ الإسلام لا يبيح حرب الاعتداء، ولا يحلّ الحرب لعرض الحياة الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة. أما الغايات الأخرى التي يقاتل من أجلها الناس، كسيادة عنصر على عنصر، أو شعب على شعب، أو استعلاء ملك على ملك، أو طبقة من الطبقات الاجتماعية على طبقة أخرى، أو توسيع رقعة مملكة، أو أغراض حربية أو استراتيجية، أو الأغراض الاقتصادية، أو الاستئثار بالمواد الخامة، والأسواق التجارية، أو تمدين المتخلفين عن الحضارة، أو غير ذلك مما تتخذه الدول وسيلة لإشعال الحرب، ونقض العهد، وهدم السلم الدائمة، فليس ذلك كلّه في شيء مما أباح الإسلام القتال لأجله: ذلك لأن غايات الإسلام إنسانية سامية، يعمّ نفعها الناس جميعاً، ونظرية علوية تقع على البشر جميعاً، كأسرة واحدة متكافلة. والله تعالى ليس ربّ المسلمين وحدهم، بل ربّ العالمين»(44)، ويقول الأستاذ سيد قطب: «السّلم قاعدة، والحرب ضرورة، ضرورة لتحقيق خير البشرية، لا خير أمة ولا خير جنس ولا خير فرد، ضرورة لتحقيق المثل الإنسانية العليا التي جعلها الله غاية الدنيا، ضرورة لتأمين الناس من الضغط، وتأمينهم من الخوف، وتأمينهم من الظلم، وتأمينهم من الضر، ضرورة لتحقيق العدل المطلق في الأرض، فتصبح إذن كلمة الله هي العليا»(45)، قال حمد حسن رقيط: «والإسلام الذي أباح الحرب يوجب على أتباعه أن لا يقاتلوا إلا من اشترك في القتال وأما من تجنب الحرب فلا يحل قتله، وحرّم الإسلام كذلك قتل النساء والأطفال والمرضى والشيوخ والرهبان والعباد والأجراء، وحرم المُثلة بل حرم قتل الحيوان وإفساد الزروع والمياه وتلويث الآبار وتتبع الفار وهدم البيوت والإجهاز على الجريح، وإذا تعيّنت الحرب على المسلمين فإنهم يقاتلون في سبيل إعلاء كلمة الله لتكون هي العليا. قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطٰنِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطٰنِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76]، ولا يبدأ المسلمون بقتال عدوهم حتى يعرضوا عليهم إما قبول الإسلام فإن أبوا فيطالبوا بدفع الجزية فإن أبوا قاتلوهم، وفي ذلك مصلحة لعامة المشركين من الناحيتين الدنيوية والأخروية، أمّا الدنيوية فسوف يتمتع عامة المشركين بعدل المسلمين إذا ظهروا عليهم وسوف يحافظون على حقوقهم وأموالهم، وأمّا الأخروية فسوف تتهيّأ لهم سبل رؤية الإسلام وإمكانية الدخول فيه بعد أن أزال المسلمون حواجز الطواغيت عنهم، وبهذا الموقف الذي ينهجه الإسلام تجاه الحرب تصان المكتسبات الحضارية من الدمار والخراب والفساد.. وينعم الناس بحياة كريمة مطمئنة»(46).

     لذلك كان السّلف الصّالح يلجأون إلى التربية عندما تواجههم الشّدائد،  فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - رضي الله تعالى عنه - لما جنّد الأجناد لمواجهة إمبراطورية فارس التي كانت تعدّ الإمبراطورية العظمى في العالم في ذلك الوقت، زوّدهم نصيحته التربوية الخالدة قائلاً لقائد الجند: أوصيك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدة في الحرب وأقوى المكيدة على العدو وأوصيك ومن معك من الأجناد بأن تكونوا أشد احتراسا عن المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجند أخوف عليكم من عدوهم وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله فإن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإلا ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا واعلموا أن في سيركم عليكم من الله حفظة يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيله ولا تقولوا: إن عدونا شر منا فلم يسلط علينا فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم كما سلط على بني إسرائيل إذ عملوا بمعاصي الله كفار المجرمين فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولًا فاسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم أسأل الله ذلك لي ولكم»(47).

     لقد نبّه الباحث إلى نموذج واحد من نماذج التربية الإسلاميّة، وإلاّ فهنالك نماذج أخرى متنوّعة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: الالتزام بالأخلاق الحسنة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجادلة أهل الكتاب وأهل الباطل بالتي هي أحسن في قوله تعالى:  ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْـمُهْتَدِينَ، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّٰبِرِيْنَ [النّحل:125، 126]، ذكر الواحدي في أسباب نزول هذه الآية عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أحد، انصرف رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فرأى منظراً ساءه، ورأى حمزَةَ: قد شُقَّ بطنه، واصْطُلِمَ أنفُه، وجُدِعَت أذناه فقال: «لولا أن تحزن النساء أو تكون سنة بعدي، لتركته حتى يبعثه الله تعالى من بطون السّباع والطّير، لأقتلنّ مكانه سبعين رجلاً منهم». ثم دعا ببردة فغطّى بها وجهَه فخرجت رجلاه، فجعل على رجليه شيئاً من الإذْخر، ثم قدمه وكبّر عليه عشراً، ثم جعل يُجاءُ بالرّجل فيُوضَعُ وحمزةُ مكانه حتى صلّى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين. فلما دُفنوا وفُرغ منهم: نزلت هذه الآية: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ إلى قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِالله فَصَبَر ولم يُمَثِّل بأحد(48)، ويكتفي الباحث هاهنا بذكر هذين النّموذجين لضيق الوقت واقتضاء موضوع البحث.

     وكنتيجة حتمية لهذا المحور نقول: إنّ التربية الإسلامية النّاجحة التي تسهم في خدمة الأمّة الإسلاميّة، وفي الصّلاح والإصلاح المنشودين هي التربية التي لا تتنازل عن ثوابت الأمة الإسلامية ولا تبالي بالمبررّات الزائفة، والمساومات المُغرِية؛ لأنّ ثوابت الأمّة الإسلامية فوق كل اعتبار، وعليها تقوم شخصية الفرد المسلم الملتزم وكيان المجتمع الإسلامي، والتلاعب بهذه الثوابت يعني التلاعب بمصير أمّة آمنت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبسيّدنا محمّدٍ –صلى الله عليه وسلم- نبيّاً ورسولاً طيلة أربعة عشر قرناً.

     إنّ الثّوابت هي التي «تتمثّل في العقيدة، والعبادة، والحدود، والأحوال الشخصيّة، والمتغيّرات تتمثّل في التّعازير، والنّظامين السّياسي والإداري، والأحكام المبنيّة على العرف والعادات والمصلحة، ويخطئ من يقوم بنقل أشياء من دائرة الثوابت ويضعها في المتغيّرات، كما يخطئ ذات الخطأ من يفعل العكس»(49).

     هذه جملة من الثوابت الإسلامية التي ينبغي لأيّ مربِّ إسلامي أن يراعيها ويقف عند حدودها، والتي لا يجوز له أن يتعدّاها أو يتغافل عنها لمجرّد ادّعاء كاذب، أو مساومة محتملة، وله في الوقت عينه أن يجتهد ببذل الوسع واستفراغ الطاقة في دائرة المتغيّرات إذا كان أهلاً لذلك، أما إذا انحرفت التربية عن الجادّة، فلا يجوز لنا تحميل الإسلام تبعاته.

المحور الثالث: عوامل نجاح التربيّة الإسلاميّة

     هناك حقيقة تاريخيّة ينبغي أن نقف أمامها طويلاً وأن نعيها جيّداً، وهي أنّ الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة قد عملت عملها في  تربية الجماعة المسلمة الأولى، حتى أنشأت جيلاً كاملاً تتمثل فيهم كل صفات الخير كالصّدق، والأمانة، والورع، والتقوى، والتضحية، والتجرّد، والتفاني، والإيثار، وأداء الأمانة، وصلة الرّحم، وحسن الجوار،  وغير ذلك، وفي الوقت نفسه كانت الجماعة المسلمة الأولى تتحرّج عن كل صفات الشرّ كأكل الميتة، وعبادة الأصنام، وإتيان الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأكل الرّبا، وقطع الرّحم، والظّلم، والفجور، ووأد البنات، والشّذوذ، والغشّ، والكذب، والقتل وغيرها من السلوكات المنحرفة، يقول سيّد قطب عن جيل الصّحابة - رضوان الله عليهم-: «لقد خرّجت هذه الدّعوة جيلاً من النّاس جيل الصّحابة رضوان الله عليهم- جيلاً مميّزاً في تاريخ الإسلام كلّه، وفى تاريخ البشريّة جميعه، ثمّ لم تعد تخرج هذا الطّراز مرّة أخرى، نعم وجد أفراد من ذلك الطّراز على مدار التّاريخ، ولكن لم يحدث قط أن تجمّع مثل ذلك العدد الضّخم، في مكان واحد، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدّعوة»(50).

     فعلاً إنّ تلك الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة التي عملت عملها في تربية الجماعة المسلمة الأولى، لم تعد تعمل عملها اليوم في تربية هذا الجيل الحاضر رغم أنّ القرآن الموجود معنا اليوم هو نفس القرآن الذي كان بين يدي الصّحابة - رضوان الله عليهم-، والسنّة هي نفسها أيضاً، والإنسان أيضاً هو نفسه الإنسان، ترى ما هي العوامل وراء تفوّق الجيل الأوّل، وانحدار الأجيال التي تليه؟

     فلْنُورد الآن هذه العوامل كما سيأتي:

العامل الأوّل: التلقّي من نبع القرآن وحده والسنة النبويّة وحدها:

     كان الجيل الأوّل يقتصر في استمداد تصوّره للوجود كلّه (الله، الكون، الإنسان)، ثم في استمداد منهج حياته كلّه (النّظام الأخلاقي، النّظام السّياسي، النّظام الاقتصادي، وكل مقوّمات حياته): على كتاب الله وحده، وسنّة نبيّه محمد –صلى الله عليه وسلم- وحدها، والتجرّد من كلّ المؤثّرات والإملاءات الخارجيّة، ورواسب الثقافات الأخرى (مثل فلسفة الرّومان وثقافتها، وفلسفة الإغريق ومنطقها، وأساطير الفرس وتصوّراتهم، وإسرائيليّات اليهود، ولاهوت النّصارى وغير ذلك من رواسب الثّقافات والحضارات العالميّة وقتذاك)، يقول سيّد قطب: «كان النّبع الأوّل الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن، القرآن وحده، فما كان حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهديه إلاّ أثراً من آثار ذلك النّبع، فعائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان خلقه القرآن»(51)، كان القرآن وحده إذن هو النّبع الذي يستقون منه، ويتكيّفون به، ويتخرّجون عليه»(52)، ثم يكشف سيّد قطب عن سبب اقتصار الصّحابة على نبع القرآن وحده فيقول: «ولم يكن ذلك كذلك؛ لأنّه لم يكن للبشريّة يومها حضارة، ولاثقافة، ولا علم، ولا مؤلفات، ولا دراسات... كلاّ! فقد كانت هناك حضارة الرّومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه، أو على امتداده، وكانت هناك مخلّفات الحضارة الإغريقيّة ومنطقها وفلسفتها وفنّها، وهو ما يزال ينبوع التّفكير الغربي حتىّ اليوم، وكانت هناك حضارة الفرس وفنّها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك، وحضارات أخرى قاصية ودانية: حضارة الهند وحضارة الصين... الخ، وكانت الحضارتان الرّومانية والفارسيّة تحفّان بالجزيرة العربيّة من شمالها ومن جنوبها، كما كانت اليهوديّة والنّصرانيّة تعيشان في قلب الجزيرة، فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالميّة والثّقافات العالميّة يقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده في فترة تكونه، وإنّما كان ذلك عن «تصميم» مرسوم، ونهج مقصود، يدلّ على هذا القصد غضب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقد رأى في يد عمر بن الخطاب صحيفة من التّوراة، وقوله: (إنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني)»(53)، إذن عدم اقتصار الأجيال وخاصة هذا الجيل الجديد- التي تلت الجيل الأوّل على نبع القرآن والسنة النبويّة وحدهما في استمداد تصوّرها للوجود ثم في استمداد كل مقوّمات حياتها هو الذي جعلها تعيش في انحدار موصول، وتيه مجهول.

العامل الثاني: التلقّي للتنفيذ والعمل:

     كان الجيل الأوّل عندما يرجع إلى القرآن وإلى سنة النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، يرجع إليهما بروح التلقّي للتنفيذ والعمل، لا بروح الدّراسة والمتاع الفكري، يقول سيّد: «إنّهم في الجيل الأوّل- لم يكونوا يقرءون القرآن بقصد الثّقافة والاطّلاع، ولا بقصد التذوّق والمتاع، لم يكن أحدهم يتلقّى القرآن ليستكثر به من زاد الثّقافة لمجرّد الثّقافة، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلميّة والفقهيّة محصولاً يملأ به جعبته، إنّما كان يتلقّى القرآن ليتلقّى أمر الله في خاصّة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته، يتلقّى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه، كما يتلقّى الجندي في الميدان «الأمر اليومي» ليعمل به فور تلقّيه!»(54)، ثمّ يبيّن سيّد قطب منهج الجيل الأوّل في التلقّي فيقول: «ومن ثمّ لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة، لأنّه كان يحسّ أنّه إنّما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-»(55)، إذن فمنهج التلقّي للتنفيذ هو الذي صنع الجيل الأوّل، ومنهج التلقّي للدّراسة والمتاع الفكري هو الذي صنع الأجيال خاصّة هذا الجيل الجديد- التي تليه.

العامل الثالث: العزلة الشّعوريّة بين ماضي المسلم في جاهليّته وحاضره في إسلامه:

     كان الرّجل من الجيل الأوّل حين يدخل في الإسلام يخلع عن نفسه كل رواسب الماضي، ويبدأ حياته الجديدة في ظلّ الإسلام، بعيداً كلّ البعد عن مؤثّرات الماضي، ومخلّفات الجاهليّة، يقول سيّد: «لقد كان الرّجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهليّة، كان يشعر في اللّحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهداً جديداً، منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهليّة، وكان يقف من كل ما عهده في جاهليّته موقف المستريب الشّاكّ الحذر المتخوّف، الذي يحسّ أنّ كلّ هذا رجس لايصلح للإسلام! وبهذا الإحساس كان يتلقّى هدي الإسلام الجديد، فإذا غلبته نفسه مرّة، وإذا اجتذبته عاداته مرّة، وإذا ضَعُف عن تكاليف الإسلام مرّة، شعر في الحال بالإثم والخطيئة، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهّر ممّا وقع فيه، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهدي القرآني»(56).

     وبعد إيراد هذه العوامل الثلاثة التي ساقها سيّد قطب في كتابه المعالم، نرى أنّ الأمّة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إليها قبل أيّ وقت مضى للنّهوض التربوي.

الخاتمة

     هذا وقد توصّلنا في هذا البحث إلى أنّ التربية الإسلامية هي تحقيق العبودية لله، وحفظ الإنسان ورعايته والعناية به، وتتبّع حركاته وسكناته منذ الصّغر، وتنشئته جسديّاً، وروحيّاً، ونفسيّاً، وعقليّاً، وخلقيّاً وفق منهج ربّانيّ كامل وشامل لجميع نواحي الحياة، ووسائل ربّانيّة يقرّرها هذا المنهج، حتى يرتقي الإنسان إلى كماله المطلوب، وتوصلنا أيضا أنّ أهميّة التربيّة الإسلامية تكمن في بناء أجيال قادرة على الحفاظ على البقاء الإسلامي، وذلك عن طريق مواجهة كل مظاهر الانحراف المتمثلة في الاستشراق، والتنصير، والعولمة، والعلمانية التي جاءتنا من الحضارة الغربية عن طريق وسائلها المختلفة، وخلصنا أخيراً إلى ثلاثة عوامل رئيسة لتحقيق نهضة تربوية إسلامية محتملة وهي:

     1- الرّجوع إلى النّبع الخالص الذي استمدّ منه الجيل الأوّل شؤون حياته كلّها، الرّجوع إلى القرآن والسنّة اللّذين لم تحرّفهما كبدات الزّمان، ولا نظرات الإنسان، لنستمّد منهما نظام الحكم، ونظام الاقتصاد، والتشريعات الجنائية، والتشريعات المدنية، وتشريعات الأسرة، وسائر الأنظمة والتشريعات التي يتضمنها هذا النّبع الخالص.

     2- الرّجوع إلى النّبع الخالص بشعور التلقّي للتنفيذ والعمل، لا بشعور الدّراسة والتّرف الفكري، بل نرجع إليه للاهتداء به في شؤون حياتنا كلّها.

     3- التجرّد الكامل من كل تصوّرات الجاهليّة وضغط المجتمع الجاهلي، والتخلّص من رواسب الثّقافات والحضارات العالميّة التي تدعو إلى التمرّد على الله، والحرب على الفطرة، والحرب على القيم والأخلاق، والحرب على قانون الله، وعدم تمكين تلك الجاهليّة مهما كان شكلها في أن تتصرّف أو تتدخّل في أيّ شأن من شؤون حياتنا الإسلاميّة.

***

الهوامش:

(35)   أي بعد سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924م، التي كانت تعتبر جدارا عازلاً بين ثقافة الأمّة الإسلامية وبين الأفكار الغريبة عن الأمة الإسلامية، ومنذ ذلك الحين وإلى الآن بدأ الرجل الأبيض يروّج لفكرته في رؤيته للكون والخالق والإنسان التي تخالف تماما رؤية الإسلام في ذلك كله.

(36)   الطالبي، ابن باديس حياته وآثاره، ج2، ص142.

(37)   الأثر بطوله أخرجه أحمد في مسنده، ج4، ص266،رقم1740.

(38)   الحديث بطوله أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب من قال لا نكاح إلا بوليّ، ج3، ص343،رقم4834.

(39)   أي: النبي محمد .

(40)   الحديث بطوله أخرجه أحمد في مسنده، ج4، ص266،رقم1740.

(41)    الحديث بطوله أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب من قال: لا نكاح إلا بوليّ، ج3، ص343، رقم4834.

(42)   مسلم، الصحيح، كتاب البرّ والصّلة والأدب، باب 15، ج4، ص1997، رقم2581.

(43)   عن أبي النضر، عن كتاب رجل من أسلم، من أصحاب النبي يقال له: عبد الله بن أبي أوفى، فكتب إلى عمر بن عبيد الله حين سار إلى الحرورية، يخبره، أنّ رسول الله كان في بعض أيامه التي لقي فيها العدوّ، ينتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم، فقال: «يا أيها الناس! لا تتمنّوا لقاء العدوّ، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السيوف»، ثم قام النبي ، وقال: «اللّهمّ، منزل الكتاب، ومجري السّحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم». انظر: مسلم، الصحيح، كتاب الجهاد والسّير، باب6، ج3، ص1362، رقم1742.

(44)   عبد الله عزام، الرّسالة الخالدة، ص91-95-96.

(45)   سيد قطب، السلام العالمي والإسلام، ص23.

(46)   رقيط، التقدم الحضاري في الإسلام، ص95-96.

(47)   أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج5، ص336.

(48)   ابن العربي، أحكام القرآن، ج3، ص175.

(49)   نعمان عبد الرزاق السامرّائي، الثوابت والمتغيّرات، ص38-39.

(50)   سيّد قطب، معالم في الطريق، ص11.

(51)   كما تقدم.

(52)   سيّد قطب، معالم في الطريق، ص12-13.

(53)   سيّد قطب، معالم في الطريق، ص12-13. الحديث قال رسول الله : «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء؛ فإنهم لن يهدوكم، وقد ضلوا، فإنكم إما أن تصدقوا بباطل، أو تكذبوا بحق، وإنه لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني». أحمد، المسند، ج22، ص468،رقم14631.

(54)   المرجع السّابق، ص14-15.

(55)   سيّد قطب، معالم في الطريق، ص14-15.

(56)   المرجع السّابق، ص 16-17.

***

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان - شوال 1436 هـ = يونيو – أغسطس 2015م ، العدد : 9-10 ، السنة : 39

 



(*)  أستاذ جزئي في الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا، ومساعد تحرير مجلة الإسلام في آسيا بنفس الجامعة.

      E-mail: beyzekoub@yahoo.fr